يعتبر زواج الأقارب من صور الزواج المفضل لدى المجتمعات الشرقية، وتاريخ الزواج من الأقارب ليس وليد الساعة وإنما يعود إلى ما قبل ظهور الإسلام فى القرن السابع الميلادى، ورغم أن الإسلام لم يمنع زواج الأقارب إلا أن هناك الكثير من الأحاديث النبوية التى تحض على عدم الزواج من الأقارب، ومنها على سبيل المثال ما روى عن رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- قوله «غربوا النكاح» وحديث آخر «تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس»، كما أنه غير محصور فقط بين المسلمين بل يتعدى ذلك إلى المجتمعات المسيحية.
وقد ارتبط موضوع الزواج من الأقارب بعدة أسباب منها، ملائمة الطرفين الشريكين، واستعداد الفتاة للدخول إلى عالم الزوجية بشكل أسهل لأنها أى "البنت" تعرف العائلة، بالإضافة إلى ذلك يلاحظ أن الزيجات بين الأقارب أمتن من مثيلاتها فى غير الأقارب بسبب حرص العائلة الدائم على استقرار الزواج.
وتظهر الإحصائيات أن متوسط نسبة زواج الأقارب فى العالم تصل إلى 10%، وتتراوح ما بين 1 إلى 10% فى عدة قارات منها أمريكا اللاتينية ووسط أفريقيا وشمال الهند واليابان وأسبانيا، وفى الدول العربية تتراوح نسبة الزيجات بين الأقارب بين 40 و50% وخاصة بين الأقارب من الدرجة الأولى، ومن أبرز الدول التى ينتشر بها زواج الأقارب من الدرجة الأولى بنسبة كبرى مصر 11 % ، والبحرين 21%، ودولة الإمارات 26 % والعراق 29%، والكويت والسعودية 31%، وفى الأردن تصل إلى 32%.
ونتيجة للتقدم العلمى فى علوم الوراثة فى عصرنا الحاضر، وما صاحب ذلك التقدم من اكتشاف كثير من الحقائق العلمية التى لم تكن مفهومة فى العصور الماضية فقد كثر الحديث عن علاقة زواج الأقارب بالأمراض الوراثية فى الذرية.
وقد أكدت الدراسات ارتفاع معدل خطر الإصابة ببعض الأمراض الوراثية بين الأطفال من أزواج أقارب، علاوة على ازدياد نسبة الوفيات بين هؤلاء الأطفال.
ويرى الأطباء أن الخطورة فى مثل هذا الزواج تكمن فى الأمراض الوراثية التى يحمل جيناتها الزوج والزوجة، ومع أن الأمراض من الممكن ألا تظهر عليهما، إلا أنها تورث بعد الزواج للأطفال والأحفاد، أمثلة ذلك التخلف العقلى والجلاكتوسيميا وغيرها من أمراض خلل التمثيل الغذائى، ومرض الكبد (ويلسون)، وضمور المخ إلى جانب أمراض الدم الوراثية التى تشمل الأنيميا المنجلية، وأنيميا البحر الأبيض المتوسط (الثلاسيميا)، ومرض الكلية المتحوصلة الذى يؤدى للفشل الكلوى.
كما يُعتقد أن مرض الصرع والأمراض القلبية وأمراض الحساسية وداء السكرى تزداد فى بعض العائلات، وتتضاعف احتمالات توارثها بالتزاوج بين الأقارب.
لذا لا ينصح كثير من علماء الوراثة بالزواج من الأقارب على اعتقاد أن زواج الأقارب ينقل الأمراض الوراثية من الآباء إلى الذرية أكثر مما هو فى زواج الأباعد، ومن هنا نشأت قاعدتان من قواعد علم الوراثة تشيران مباشرة إلى معانى الأحاديث الشريفة الواردة فى الأثر الإسلامى عن الرسول محمد- صلى الله عليه وسلم- مثل الحديث القائل: "تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس"، و"اغتربوا لا تضووا"، أى تزوجوا الأغراب حتى لا تضعف الذرية، تم استنباطهما من نتائج تجارب التزاوج بين الحيوانات، وكذلك من تجارب تلقيح النبات، وهما الأولى: ضرورة تباعد مصدر المورثات فى التزاوج والثانية: أن نسبة ظهور المرض الوراثى المتنحى فى النتاج باحتمال واحد إلى أربعة فى كل ولادة إذا كان كلا من الأب والأم يحملان نفس الجين المعيب، ويتزايد احتمال أن يحمل كل من الأب والأم نفس الجين المعيب كلما زادت درجة القرابة بينهما.
وقد أظهر المسح الوراثى للمواليد، أن نسبة حدوث الولادات المبكرة وظهور بعض الأمراض الوراثية والعيوب الخلقية كانت أعلى فى زيجات الأقارب عنها فى زيجات الأباعد، وكان متوسط وزن المولود فى زيجات الأقارب أقل منه فى زيجات الأباعد.
وقد أظهرت إحدى الدراسات أن عدد حالات الضعف العقلى فيما يعرف بالطفل المنغولى، الذى ينتج عن خلل فى انقسام الكروموسامات، 14 حالة بين 3989 زيجة بين الأقارب، مقابل ست حالات بين 7463 زيجة بين الأباعد، مما يدل على أن هذه الحالة تتأثر بمورث متنحى، وعلى ذلك يزيد حدوثها بين زيجات الأقارب.
وفى مصر، أظهرت الدراسات الميدانية أن نسبة زواج الأقارب تتراوح ما بين 20 إلى 42 فى المائة من حالات الزواج، فيما أثبتت الدراسات السعودية أن 73 فى المائة من حالات استسقاء الدماغ، واعتلالات الجهاز العصبى فى الأطفال حديثى الولادة، ترجع إلى الزواج بين الأقارب وتعدد الحمل.
وخلص الباحثون فى أبحاث أعدها خبراء الوراثة البشرية بالمركز القومى للبحوث، وعلى رأسهم أ.د.سامية التمتامى حول "أثر الأمراض الوراثية وزواج الأقارب على ولادة أطفال مصابين بتشوهات جسدية وعقلية".
وقد أظهرت هذه الدراسات أهمية قضية زواج الأقارب وعلاقتها بزيادة نسبة حدوث التشوهات الخلقية والأمراض الوراثية ذات الصفة المتنحيّة، حيث يكون الأب أو الأم حاملين لمرض وراثى معين ولا تظهر عليهم أية أعراض، وعند زواجهما وبعد حدوث الحمل تنتقل الجينات مناصفة إلى الأبناء، ومن هذه الدراسات دراسة أجريت على 100 حالة من حالات الأطفال الذين يعانون من التخلف العقلى بدرجات متفاوتة نتيجة لأسباب مختلفة ومتعددة، حيث وجد أن أكثر من 65 فى المائة من هؤلاء الأطفال كانوا لآباء وأمهات أقارب من الدرجة الأولى أو الثانية.
كما أثبتت دراسة أخرى تكرار ظهور أكثر من مرض متنحى فى نفس العائلة كنتاج لزواج الأقارب، بالإضافة إلى اكتشاف بعض الحالات الوراثية النادرة، والتى لم يتم اكتشافها ونشرها من قبل فى الدوريات العالمية.
وأفادت الإحصاءات العالمية والمحلية أن أعلى معدلات الإصابة بأنيميا البحر الأبيض المتوسط المعروفة بالثلاسيميا الوراثية تقع فى الدول المطلة على حوض البحر الأبيض المتوسط، ويزداد احتمال وفرص ظهورها بين الأطفال من أزواج أقارب والحاملين لجينات هذا المرض، وأن أعلى نسبة للحالات المرضية المرتبطة بالحمل، مثل فقر الدم وتسمم الحمل والنزيف والإجهاض، وزيادة العمليات القيصرية كانت بين الأمهات المتزوجات من أقاربهن.
وتعتمد خطورة زواج الأقارب فى نقل الأمراض الوراثية الناتجة من عاملين وراثيين متنحيين، على نسبة انتشار العامل الوراثى المرضى المتنحى فى المجتمع، فكلما كانت هذه النسبة أقل فى المجتمع، كان زواج الأقارب يسبب نسبة أعلى من تلك الأمراض الوراثية المحدودة والمعينة من زواج الأباعد.
ووفقا للنظريات العلمية، فإن وجود مرض وراثى فى أحد الوالدين ينقله عامل وراثى سائد، فإنه يعبر عن نفسه فى نسبة 50 % من الأبناء، ولا يظهر فى الآخرين، أما فى حالة العوامل الوراثية المتنحية فلا بد أن تكون موجودة فى كل من الأب والأم معا ليظهر المرض فى نسبة معينة من الأبناء يجتمع لديهم عاملان وراثيان متنحيان، ولا يظهر فى من ينتقل إليه عامل وراثى متنح واحد، وهذه العوامل الوراثية السائدة أو المتنحية، لا تحمل صفات غير مرغوب فيها أو أمراضا فقط، بل قد تحمل صفات مرغوبا فيها أيضا.
وتجتمع العوامل الوراثية المتنحية فى الأقارب فى الجيل الأول بنسبة 1:8، وتقل هذه النسبة فى غير الأقارب، فإذا كان هذا الجين فى المجتمع بنسبة 1 : 1000 فإن احتمال تواجد هذا الجين فى أحد الزوجين 1 : 500، وإذا كان فى المجتمع بنسبة 1 : 100، فإن احتمال وجود هذا الجين فى أحد الزوجين 1 : 50، وفى كلتا الحالتين تكون نسبة تواجد الجين المتنحى فى الأقرباء "بنت العم أو العمة والخال والخالة" ثابتة 1 :8، مما يؤكد خطورة زواج الأقارب فى ظهور الأمراض الوراثية، وخاصة النادرة منها، فإذا استمر الزواج بالأقارب جيلا بعد جيل، فإن العوامل الوراثية المتنحية تجتمع فيهم أكثر مما هى موجودة فى المجتمع من حولهم، فعلى سبيل المثال إذا تزوج الرجل بابنة عمه أو ابنة خاله، وكان كل منهما يحمل نفس العامل الوراثى المتنحى لصفة صحية أو مرضية، فإن 25 فى المائة من أبنائهما ستظهر عليهم تلك الصفة، بينما يحمل 50 فى المائة منهم العامل الوراثى المتنحى فى حين لا يحمله الـ25 فى المائة الباقين.
أما إذا كانت درجة القرابة بعيدة، فإن احتمال تواجد الجينات المماثلة أقل، وبالتالى يكون احتمال حدوث المرض فى الذرية أقل من هذه النسبة، كأن يكون مثلا 1 : 16 والعكس صحيح، فإذا كانت درجة القرابة بين الزوجين أقرب فإن احتمال تواجد الجينات المماثلة يكون أكثر.
واستناداً إلى هذه المعلومات، وانطلاقاً من التقدم الطبى فى تشخيص الأمراض جينياً فى الأجنة، فإن العلم يستطيع تشخيص ما إذا كان الجنين مصاباً أو حاملاً للمرض أو سليماً، وذلك فى مراحل مبكرة من الحمل ويترك القرار للزوجين فى إتمام الحمل أو عدمه.
ويوصى الاختصاصيون جميع الشباب والفتيات المقدمين على الزواج، بالحصول على استشارات أولية قبل الزواج وقبل الحمل، وخصوصا الأقارب من الدرجة الأولى، بهدف بناء أسرة سعيدة متوافقة صحيا ونفسيا واجتماعيا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق